كرهت زوجة أبي، وكرهت معها أبي نفسه. فقد كان يصدقها دائما فيما تقول، ويعنفني أمامها، وأحيانا كان يضربني بقسوة، ليرضيها، فقد كانت دائمة التشكي مني، وتلفق لي التهم. لم يكفها أنني صرت خادمة عندها، بل تريدني أن أكون عبدة مطيعة في كل شيء، هذه المرأة التي حرضت أبي علي حتى لم يعد يطيقني هي سبب مصيبتي كلها، وكم تمنيت أن ينتقم الله منها يوما ما، ويخفيها عن الوجود.
ولماذا ألومها، وأبي لم يكلف نفسه أن يسمعني ولو مرة واحدة. فقد كانت عنده الإله المطاع، وإن حاول أن يتساهل معي كانت تقلب حياته جحيما، فيصب كل غضبه علي، حتى أنه كان أحيانا يشترك معها في ضربي فلا أجد من أهرب إليه ليحميني، فأستسلم إلى قدري المحتوم، حتى أصبحت فتاة مستسلمة لليأس والقهر والكبت الداخلي.
اختلف أبي مع أمي فطلقها، أمي رمتني إليه، لتنتقم منه، وعمري لم يتجاوز ثمانية شهور، ووالدي تركني لأعمامي لأنه انشغل بزوجته الجديدة سبب مصائبي كلها.
عشت مشردة محرومة من كل حنان، حياة ملؤها القسوة، حتى اعتقدت في صغري أن الله لا يحبني. كيف يحبني وقد خلقني لأم وأب أهملاني وتخليا عني قبل أن أتم السنة؟ ما الذي أذنبته حتى أتحمل كل ذلك؟
لماذا خلقتني يارب في دنيا الذئاب المفترسة، ما هذه الحياة التي يتركني فيها والدي ويتمنى لي الموت ليتخلص مني، وأمي تهرب فلا أعرف لها مكانا.
عشت طفولتي في بيت جدي وجدتي من أبي الذي لم يعد يسأل عني، أما أعمامي فقد كانوا يزوروني أحيانا للاطمئنان علي ابنتهم كما كانوا يقولون لأنني عِرضهم، ولو كنت ابنا لما اهتموا بي ولا سألوا عني، كان خوفهم أن أمس شرفهم وليس حبا في ابنة أخيهم. كان أعمامي يعاملوني بشيء من اللطف حتى بلغت السابعة، فتغيرت معاملتهم لي.
كنت أسمعهم يقولون فيما بينهم، لماذا نربيها وأبوها حي يرزق؟! نحن غير مستعدين لتربيتها وأبوها لا يبالي إلا بنفسه وبزوجته الجديدة.
بعد ضغط شديد من اخوته اضطر أبي أن يأخذني لأستقر معه في السعودية، حيث كان يعمل هناك، و عشت معه ومع زوجته التي لم أر يوما سعيدا معها. كانت تضربني بعنف شديد، ولم يكن باستطاعتي أن أعبر عن معاناتي، ولو حتى بالبكاء.
في كل يوم كان الغضب يزداد علي، فلم أستطع أن أكون صداقات في المدرسة، لم أشعر يوما أنني طالبة، فضرب زوجة أبي وتشغيلها لي في البيت، جعلني أكره المدرسة. ولأنني لم أكن أحل واجباتي المدرسية، فقد كنت أتعرض لضرب المعلمات اللواتي لم يكن يعلمن ما أتعرض له في البيت.
يا الله، ضرب في البيت وضرب في المدرسة، زوجة أبي تتلذ بضربي أمام أبي، وتتهمني أنني مهملة، وأنني أبول في الفراش.
بقيت حياتي تسير على هذا المنوال حتى بلغت الثامنة عشر .. و بعدها عدت إلى بلدي الأردن لأعيش مرة أخرى في منزل جدي، وتخلصت من شتى أنواع القهر، والإهانة، والضرب من زوجة أبي . لكن هذه الفرحة لم تستمر طويلا فسرعان ما توفي الجدان وعاد الوالد مع زوجته من السعودية، مما اضطرني للعودة مرة أخرى للعيش في كنف زوجة الأب التي استمرت في ضربي، وإهانتي أمام الجميع حتى حضرت الشرطة في أحد المرات بناء لبلاغ من أحد المارين في الطريق الذي أزعجة صوت الفتاة القادم من وراء الجدران، تستغيث طالبة المساعدة وكأنها امرأة عربية في زمن المعتصم تستصرخ ضمائر الناس الذين عجزوا عن تقديم المساعدة لأحد .
لم تفعل الشرطة شيئا سوى تسجيل محضر لأنني أجبرت على التنازل عن حقي في تأديبها خوفا من أبي المجرم في حقي، الذي حرمني بالتعاون مع أمي حقوقي كطفلة، حقوق الحنان، واللعب، والتعلم بأمان، والعيش في أسرة سعيدة، والأهم من ذلك حرمني حق الإستمتاع بلفظ : أمي وأبي .
حتى حقي في أن أنام نوما هادئا فقدته …. فقدت كل شيء، فهل لهذه الحياة أن تعوضني وأن تقدم لي شيئا آخر لا يمكن أن أفقده ؟
ليته يتغير منحى حياتي … لكن هيهات، فقد أصبح التغيير حلما لدي، لكن صبري لم يدم كثيرا فقد تعرفت على أسرة بحاجة إلى جليسة أطفال لان الزوج مشغول، وكذلك زوجته الطبيبة الهنغارية.
يبلغ طفلهما من العمر تسعة أشهر حيث قمت بدور الأمومة مبكرا وأديته جيدا، هذا الدور هو الإحساس الذي لم تمنحه لي أمي يوما ولم تتقنه كأحد أهم أدوارها، فقمت برعاية الطفل حتى بلغ من العمر سنتين تقريبا، أي أنني عملت لديهم طوال فترة عام كامل بنهايته اضطررت لترك العمل لدى هذه العائلة بسبب مضايقة و تحرش والد الطفل بي جنسيا . هكذا هم الرجال لا يتركون أحدا من شرهم حتى في بيوتهم يريدون خيانة زوجاتهم .
حزنت لفراق الطفل الصغير لأنه منحني إحساسا جميلا، الشعور بأنني ما زلت طفلة تلعب مع طفل آخر، بكيت كثيرا لفراقه ولفقدان عملي لانه كان يبعدني عن زوجة أبي القاسية المتسلطة، لعنة الله عليها، وعلى اليوم الذي تعرفت فيه عليها، فها أنا أعود إلى بيت والدي مجبرة، لأتعرض للإهانة، والضرب من جديد، وليس لي من خيار آخر غير ذلك كمن يستجير من الرمضاء بالنار .
لقد كان أكثر ما يقلقني ويقتلني صمت أبي، و استسلامه وإهماله لي، فهو لم ينصفني يوما و لم يدفع أذى زوجته عني بل على العكس فقد كان يوافقها على معاملتي، هكذا بحجة التربية، و التنشئة السليمة التي تكون بالضرب.
يا لحظي التعيس … لماذا لا أعيش كأي فتاة ؟؟ لماذا لا يتقبلني والدي ولا ينصفني أمام ظلم الحياة و ظلم زوجته؟
بعد سنين القهر و الحرمان وقفت أمامه أتذكر كل لحظة عشتها في طفولتي و لم تكن أيا منها طبيعية … وقفت أمامه و قلت له: لم أعد احتمل، أرجوك أن تخلصني من هذا السجن، دعني أعمل خادمة في بيوت الناس ولكن لا تبقيني خادمة لزوجتك. لم يصدق ما سمعه مني، لكنه في النهاية قبل بعرضي عليه، ليس حبا بي ولكن لأنني وعدته أن أعطيه نصف راتبي، ولكي يستريح مني ومن تذمري المستمر.
وبعد أيام من البحث المضني وجدت عملا في مؤسسة خيرية ورغم قلة الراتب وافقت على الفور وباشرت العمل في اليوم التالي وقد طلبت منهم المبيت في الجمعية بعد أن شرحت لهم وضعي فوافقوا على الفور، فرحت وحمدت الله على أنني لن أشاهد زوجة والدي التي تمثل بالنسبة لي إبليس نفسه. كما سرت زوجة أبي أيضا لانها تخلصت مني لأنها كانت تكرهني بالرغم مما عملته بي .
فرحتي لم تستمر، فقد استغنت الجمعية عني لأن الميزانية لا تسمح لهم بموظفين جدد، مما اضطرني للعمل في أحد المحلات التجارية، وكنت قد وجدت سكنا عند إحدى السيدات الأرامل، وكنت أدفع لها ثلث راتبي المتدني الذي لا يتجاوز ما قيمته مائة وعشرون دولارا كان والدي يلطش نصفها دون أن يقول لي ولو كلمة شكر واحدة، أو حتى يعطيك العافية .
وعندما زرته في المرة الأخيرة لتسليم نصف الراتب هجم علي هو وزوجته الش … انهال علي بالضرب وهي شدت شعري بقوة كمن يريد أن ينتقم مني شر انتقام سألتهما:
لماذا تضربانني؟ فأجابا لانهما علما أنني تركت العمل في الجمعية ولم أبلغهما بمكان عملي الجديد. وهددني والدي إن خرجت من البيت فسوف يكسر رجلي .
والدي لا يريدني أن أعمل في محل تجاري، وفي نفس الوقت لا يريدني الخروج من البيت، ولا يريد أن يرفع ظلم زوجته عني، ولم يعطني يوما قرشا أصرفه على نفسي، اشتهيت الشوكالاته طفلة، وعندما كبرت تمنيت أن يقدم لي هدية بأية مناسبة كانت ليفرحني بها، كما كان يفعل مع زوجته حبيبة قلبه.
لم أعد أحتمل العيش في البيت، لا اريد أن أظل خادمة عند زوجة أبي التي أكرهها أكثر من كره آدم لإبليس، فلماذا أصبر على العيش في بيت السجن أهون منه؟
هل قررت أن أفعلها و….؟
نعم هذا ما عزمت عليه، فلماذا لا أفعل ذلك؟ لم يدر بخلدي أين أذهب ولا أين سأبيت، ولا أين سأجد عملا، كل ما كان يهمني هو ترك البيت، والخروج منه حتى لو همت على وجهي مع الذئاب والكلاب.
بدأت أعد العدة للهرب، لم أترك أحدا يشك بشيء، فقد انتظرت حتى طلبت مني زوجة أبي أن أشتري لها بعض الحاجيات من المحل القريب منا، فذهبت ولم أعد.
ماذا افعل، ولماذا هربت؟
لا ادري
إلى أين أذهب؟
صمت مطبق، لم يدلني عقلي على مكان آمن.
هل أعود إلى بيت أبي؟
كلا حتى لو بعت نفسي للذئاب.
لماذا لم يتركني أبي بحالي؟ طلبت منه أن يتركني أعيش كما أنا، لا أريد العودة إلى منزله، ولا أريد تكرار الماضي بما فيه من قهر وذل و حرمان واستعباد … أحتاج لأن أعيش مع بشر حقيقيين ..أحتاج أن أنسى الماضي وقسوته، أحتاج أن استعيد ثقتي بنفسي .. و لا أريد أن يستمر الماضي في مطاردتي . فهل يتركني أبي بحالي؟ أم أنني لن أهنأ بالسعادة يوما وليس لي إلا الانتحار؟ كنت أسير كالهائمة في شوارع عمان البعيدة عن بيت أبي، فجأة استوقفني إعلان على أحد الجدران، تسمرت في مكاني، قرأته مرة ومرات، حفظت العنوان عن ظهر قلب، وتابعت سيري إلى العنوان المذكور في الإعلان. عندما وصلت كان الباب مغلقا، اقتربت من الباب لأقرعه، لكني تراجعت قليلا، فقد أصابني الخوف، هل صحيح سيساعدوني، أم سيسلموني لأبي؟ رفعت يدي لأقرع الباب وبدل أن تهوي يدي عليه، تراجعت عنه، قررت الانسحاب بهدوء. فجأة فتح الباب، نظرت فإذا بها سيدة كانت على وشك أن تغادر المكان، سألتني وهي تبتسم، من أنت؟ لم أرد عليها فقد منعتني دموعي من الرد. مدت يدها بلطف وأمسكت بيدي، سحبتني إلى الداخل كأنني ضيفة عندها، أجلستني على كرسي، وطلبت لي كأسا من الماء، ثم قالت : لا تبك يا ابنتي، فقد قرأت في عيونك كل شيء. سألتها:
هل أستطيع النوم عندكم؟
نعم، ردت علي، فهذا بيت لمن لا بيت لهن. ارتحت كثيرا، كأن سكينته أنزلت علي للتو، رفعت يدي إلى السماء وقلتها لأول مرة منذ سنوات طويلة:
أحمدك يا رب.