[color=#ff3300]اللغات تضعف وتموت كما يموت البشر
يقول علماء اللسانيات إنه يوجد في الوقت الحاضر ما بين 5000 و6000 لغة (طبقاً لنوعية التصنيف واحتساب اللهجات أو عدمه). وتشير الإحصائيات العلمية أن ما بين 250 و 300 لغة تنقرض سنوياً بفعل سرعة التواصل والميل إلى استعمال اللغات العالمية الأكثر فاعلية. وهذا ما يسميه بعضهم بالغزو الثقافي أو اللغوي. وبعملية حسابية بسيطة، يتبيّن لنا أن القرن الميلادي الحالي سيشهد اندثار حوالي ثلاثة آلاف لغة، أي نصف لغات العالم.
وقد أكدت منظمة اليونسكو ذلك فقد " أسفر أحد تقارير اليونسكو الأخيرة عن أنّ عدداً من لغات العالم مهدّدة بالانقراض، ومن بينها اللغة العربية"، كما ورد في مداخلة اللغوي المصري الدكتور رشدي طعيمة، المعروف بتديّنه ودماثة خلقه. ولكي يُعزز الدكتور طعيمة أقواله ويضفي عليها المصداقية، أشهر في وجه المؤتمرين كتاباً ألّفه اللساني البريطاني ديفيد كريستال بعنوان " موت اللغة " صدر عن مطبعة جامعة كمبرج. ويعدّد هذا الكتاب تسعة شروط لموت اللغة. وجميع هذه الشروط تنطبق على اللغة العربية في وضعها الراهن، وفي مقدمتها شرط انتشار لغة الغالب في بلاد المغلوب وحلولها محلّ لغته التي هي من مقوِّمات الأُمّة. وهذا مبدأ معروف في علم الاجتماع أرساه المرحوم ابن خلدون في "المقدِّمة" بقوله: إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده … إن الأمّة إذا غُلِبت وصارت في ملك غيرها، أسرع إليها الفناء."
لعنة الازدواجية اللغوية:
تعني الازدواجية اللغوية وجود مستويَين للغة الواحدة: أحداهما مستوى اللغة الفصيحة أو المشتركة الذي يُستخدَم في المناسبات الرسمية والكتابة والأدب والتعليم والإدارة، والآخر مستوى اللغة العامية أو اللهجات الدارجة الذي يُستعمل في الحياة اليومية وفي المحادثات في المنزل والشارع. وكان أوّل من بحث هذه الظاهرة اللغوية في العصر الحديث اللغوي الأمريكي تشارلز فرغيسون ونشر بحثه عنها عام 1959 في مجلة " اللغة " الأمريكية وأكد هذا اللغوي أن الازدواجية ظاهرة موجودة في جميع اللغات الكبرى. فالانجليزية في بريطانيا، مثلاً، لها لهجات متعددة في ويلز واستكلندة وإيرلندة الشمالية وحتى لهجة الكوكني في لندن، إضافة إلى لهجات الإنجليزية خارج بريطانيا كاللهجة الكندية والأمريكية والاسترالية والنيوزلندية والجنوب أفريقية إلخ. وكذلك الحال بالنسبة للغات الفرنسية والألمانية والإسبانية وغيرهما.
ولكن اللغويين لا يتوقعون أن تحلّ لهجات اللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية محلّ هذه اللغات في حين يتوقعون أن تحلّ، في المستقبل القريب، اللهجاتُ المصرية والعراقية والمغربية إلخ. محلَ اللغة العربية الفصيحة التي ستنقرض كما انقرضت اللغة اللاتينية في أوربا واستُعيض عنها بلهجاتها الإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية إلخ. التي صارت لغات مستقلّة.
ونسأل لنتعلّم: وما هو الفرق بين الازدواجية في اللغة العربية والازدواجية في بقية اللغات العالمية؟ فيأتينا الجواب من العارفين بالقول: إن الفرق هو في الكم وليس في الكيف، بمعنى أن الفارق بين اللهجات الإنجليزية وبين اللغة الإنجليزية الفصيحة، مثلاً، هو فارق ضئيل جداً لا يحول دون الفهم، على حين أن الفارق بين اللغة العربية الفصحى ولهجاتها فارق كبير جداً. ونسأل لنستفيد: وكيف أصبح الفارق بين تلك اللغات العالمية ولهجاتها ضئيلاً؟ يجيب العارفون بأن الدول الغربية اتبعت ـ وتتبع دائماً ـ سياسات لغوية تفرض استخدام اللغة الفصيحة المشتركة في التعليم والإعلام والإدارة والتجارة وجميع مجالات الحياة، فيعتاد المواطنون على سماعها وقراءتها فيتمكنون منها وتقترب لغتهم الدارجة من اللغة الفصيحة. وفي فرنسا، مثلاً، يوجد فانون يعاقب مَن يُخطئ باللغة الفرنسية في الإذاعة أو التلفزة أو المدرسة، لأنه يُفسد لغة الأطفال وغيرهم.
وقد ذكر كثير من الباحثين في المؤتمر أن السياسات اللغوية للدول العربية تميل إلى تفضيل اللهجات العامية واللغات الأجنبية في مجالات الحياة المختلفة كالإعلام والتعليم، وتشجّع العاميّة في الإذاعة والتلفزة ولا تمنعها أو تقلل منها. (وكاتب هذا المقال يرى أنه لا توجد سياسات لغوية مُعلَنة في الأقطار العربية، ما عدا ما ورد في دساتيرها من أن العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، ولكن ليس ثمة قوانين أو أنظمة لتفعيل ذلك). ويرى أولئك الباحثون أن هذه السياسات اللغوية للدول العربية تجعل لغة الكتاب العربية الفصيحة لغة غريبة نادرة الاستعمال يصعب استيعابها فلا يُقبل المواطنون على القراءة. وأدى ذلك، إضافة إلى أسباب أخرى كانتشار الأمية، إلى انخفاض نسبة القراءة وانحسار المعرفة في المجتمعات العربية. إذ تشير الإحصائيات إلى أن معدّل القراءة في إسرائيل هو 40 كتاباً للفرد الواحد (طبعاً باللغة العبرية، وهي لغة ميّتة تحييها دولة إسرائيل)، وفي معظم الدول الغربية 35 كتاباً للفرد، وفي السنغال 4 كتب للفرد، وفي بلادنا كتاب واحد لكل 80 فرداً (طبعاً باللغة العربية، وهي لغة حيّة تُميتها الدول العربية)، كما ورد في بحث الدكتور عبد الله الدنان من سوريا.
[color:6d48=#cc3300:6d48]لعنة الثنائية اللغوية:
تعني الثنائية اللغوية توافر لغتين في البلاد الواحدة، أو تحدُّث الفرد بلغتين مختلفتين، هما، بوجه عام، اللغة القومية ولغة أجنبية، أو اللغة القومية ولغة وطنية أخرى. ويتفق هذا المؤتمر على أن تعلّم اللغات الأجنبية ضرورة يستدعيها الانفتاح على الثقافات الأخرى أخذاً وعطاء والتعاون معها في سبيل خير الإنسانية. ولكن المؤتمر يؤكّد، من ناحية أخرى، أن إيجاد مجتمع المعرفة اللازم لتحقيق التنمية البشرية لا يمكن أن يتم إلا باكتساب المعارف والعلوم باللغة القومية التي تساعد على تعميم المعرفة العلمية والتقنية على نطاق واسع. فاللغة هي وعاء الفكر وهي الحاضنة له بدرجاته المتنوعة وصولاً إلى الإبداع، وهي وسيلة التواصل بين أفراد المجتمع ومؤسساته المختلفة وتبادل المعلومات والأفكار بينها. فهي كالعُملة في التبادل التجاري. وكلّما كانت العملة قوية وموحدة في البلاد، أصبح التبادل التجاري أيسر وأكثر نشاطاً.
وقد قُدّمت بحوث في المؤتمر عن تجارب بلدان بلغت شأواً رفيعاً من التقدم والرقي بفضل نشر المعرفة بلغتها القومية. فقد ذُكِر أن اليابان استسلمت في الحرب العالمية الثانية تحت وطأة القنابل الذريّة الأمريكية، ففرض الأمريكيون شروطهم المجحفة على اليابان المستسلمة، مثل تغيير الدستور، حلّ الجيش، نزع السلاح، إلخ. وقد قبلت اليابان جميع تلك الشروط باستثناء شرط واحد هو التخلي عن لغتها القومية في التعليم، فكانت اللغة اليابانية منطلق نهضتها العلمية والصناعية الجديدة.
وقدم الدكتور يوسف عبد الفتاح، الاستاذ بجامعة هانكوك للدراسات الأجنبية في كوريا الجنوبية دراسة عن كيفية اعتماد اللغة الكورية أساساً للتنمية البشرية (للتذكير: تحتل كوريا الرتبة 26 في تقرير التنمية البشرية 2006 للأمم المتحدة، وللمقارنة فإن ألمانيا تحتل الرتبة 21، ومعظم الدول العربية تحتل بجدارة الرتب ما بعد 120). وأشار الباحث إلى أن التعليم، في مختلف مراحله ومتنوّع تخصّصاته، يتم باللغة الكورية الفصيحة، مع العلم أن اللغة الكورية كانت قد مُنعت في المدارس الكورية وحلّت محلها اليابانية أثناء الاحتلال الياباني لكوريا الذي انتهى في الحرب العالمية الثانية. وتوجد في كوريا حالياً 110 قنوات تلفزيونية كلّها خاصة إلا قناة حكومية واحدة، " وجميعها تبثّ باللغة الكورية الفصحى السليمة " (طبقاً للسياسة اللغوية للدولة وتحت مراقبتها). ومن الطرائف التي ذكرها الباحث أنه عند وصوله أوّل مرّة إلى كوريا لم يعرف طريقه، لأن جميع اللافتات وأسماء المحلات بالكورية فقط والنادر منها، كلافتات السفارات والفنادق الكبرى، يضيف الاسم بالحروف الأجنبية الصغيرة تحت الحروف الكورية الكبيرة. وعندما سأل زميلاً له عن ذلك، أجابه فائلاً: إذا أردت أن تقرأ الأسماء بالإنجليزية فارحل إلى إنجلترا. وعندما ذهب إلى عيادة طبيب كان عليه أن يصطحب مترجماً. وسأل الأستاذُ المترجمَ: لماذا لا يتحدث الطبيب اللغة الإنجليزية؟ قال المترجم: وماذا سأفعل أنا؟
إن الثنائية اللغوية في بلداننا تشكّل صراعاً غير متكافئ بين لغة قومية تلقى من أهلها أصناف الاحتقار والإهمال والتهميش، بل والتدمير، وبين لغة عالمية وافدة " بكل سطوتها الثقافية وسلطتها الاقتصادية وهيمنتها الدولية، كما قال الشاعر المغربي الدكتور مصطفى الشليح في المؤتمر، فتلقى هذه اللغة الأجنبية الترحيب والتعظيم في بلداننا، وثمة " عوامل أخرى تشجّع على بسط نفوذ هذه اللغة (الوافدة)، تتهيأ بإرادة جهات مسئولة في مجتمعنا العربي" كما قال اللغوي السعودي الدكتور أحمد محمد المعتوق.
وأدانت معظمُ بحوث المؤتمر الوضعَ اللغوي في بلداننا، فأشارت إلى أن أبناء النخبة يتعلّمون في مدارس أجنبية أو مدارس خاصة، ذات مناهج أمريكية أو بريطانية أو فرنسية أو إسبانية أو إيطالية، إلخ، وهي إن علّمت اللغة العربية فلا تخصّص لها أكثر من ساعتين في الأسبوع، ما ينتج عنه تفاوت ثقافي طبقي يهدّد السلم الاجتماعي. ومن ناحية أخرى فإن العلوم والتقنيات في الجامعات والمعاهد العليا تُدرَّس باللغة الأجنبية، الإنجليزية في بلدان المشرق والفرنسية في البلدان المغاربية. وأبناؤنا لا يجيدون اللغة العربية ولا اللغة الأجنبية. وإذا كانت اللغة وعاء الفكر، فإن الطالب العربي لا يحمل وعاءً سليماً بل ينوء تحت عدد من الأوعية المثقوبة التي لا تحتفظ بالمعارف والعلوم، ناهيك بعدم تمكّنه من تمثّل تلك المعارف والعلوم أو الإبداع فيها.
ولقد ذكر باحث مصري أن إحدى رياض الأطفال الأجنبية أضافت اللغة العربية إلى منهجها، فاحتجّ أولياء الأمور لدى مديرها قائلين إنهم أرسلوا أولادهم إليه ليعلّمهم الإنجليزية وليس العربية. وتشكّت أستاذة جامعية من إحدى الدول المغاربية تشارك في المؤتمر من أن ابنتها التي تبلغ الخامسة من العمر وتتعلّم العربية والفرنسية في روض الأطفال ، ترفض مراجعة دروس اللغة العربية معها وتقول لها بالفرنسية: " ماما، أنا أكره العربية، لنقرأ الفرنسية." وقال مشارك آخر في المؤتمر من إحدى الدول المشرقية إن أبناءه الذين يتعلّمون في مدرسة أجنبية لا يفهمون العربية وهو مضطر إلى التحدث معهم في منزله باللغة الإنجليزية. وصرّح أحد المشاركين من دولة خليجية أنه عند عودته إلى منزله في المساء لا يفهم أطفاله الصغار فهم يتحدّثون بإحدى اللهجات الهندية، لأن المربّية هندية والخادمة هندية والسائق هندي، والإنجليزية الهندية هي السائدة في الأسواق والفنادق والمطاعم والمطارات وجلّ الأمكنة في البلاد. وأحيانا يضطر إلى استقدام مربيّة سيرلانكية بدل الهندية، فتتبلبل لغة أطفاله.
وبيّن الدكتور أحمد عكاشة، رئيس الجمعية الدولية للطب النفسي، في مداخلته في المؤتمر أن التعدد اللغوي في الطفولة قد يسبب اضطرابات نطقية ونفسية وعقلية. وأن الأطفال العرب الذين يتلقّون تعليمهم في مدارس أجنبية أو بمناهج أجنبية يميلون إلى الشعور بالنقص واحتقار الأهل والشعور بالاغتراب الثقافي في بلدانهم، وأن هذا النوع من الاغتراب هو من أهم أسباب هجرة الأدمغة من بلداننا إلى الغرب.